فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا} الوَعْد في كلام العرب إذا أطلق فهو في الخير، وإذا قُيّد بالموعود ما هو فقد يقدّر بالخير وبالشر كالبشارة.
فهذه الآية مما يقيد فيها الوعد بالمعنيين جميعًا.
قال ابن عباس: في هذه الآية اثنتان من الله تعالى واثنتان من الشيطان.
وروى الترمذِيّ عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن للشيطان لَمّةً بابن آدم وللمَلك لَمَّةً فأما لمّة الشيطان فإيعادٌ بالشّر وتكذيبٌ بالحق وأما لَمّة المَلَك فإيعادٌ بالخير وتصديقٌ بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله ومَن وجد الأُخرى فليتعوّذ بالله من الشيطان ثم قرأ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ}» قال: هذا حديث حسن صحيح.
ويجوز في غير القرآن ويأمركم الفحشاء بحذف الباء؛ وأنشد سيبويه:
أمرتُك الخيرَ فافعل ما أمرتَ به ** فقد تركتك ذا مالٍ وذا نَشَبِ

اهـ.

.قال ابن عاشور:

ومعنى {يعدكم} يسوّل لكم وقوعه في المستقبل إذا أنفقتم خيار أموالكم، وذلك بما يلقيه في قلوب الذين تخلّقوا بالأخلاق الشيطانية.
وسمّي الإخبار بحصول أمر في المستقبل وعدًا مجازًا لأنّ الوعد إخبار بحصول شيء في المستقبل من جهة المخبِر، ولذلك يقال: أنجز فلان وعده أو أخلف وعده، ولا يقولون أنجز خَبَره، ويقولون صدق خَبَرِه وصدَق وعده، فالوعد أخصّ من الخبر، وبذلك يؤذن كلام أئِمة اللغة.
فشُبِّه إلقاء الشيطان في نفوسهم توقّع الفقر بوعد منه بحصوله لا محالة، ووجه الشبه ما في الوعد من معنى التحقق، وحسَّن هذا المجاز هنا مشاكلته لقوله: {والله يعدكم مغفرة} فإنّه وعد حقيقي.
ثم إن كان الوعد يطلق على التعهد بالخير والشر كما هو كلام القاموس تبعًا لفصيح ثعلب ففي قوله يعدكم الفقر مجاز واحد، وإن كان خاصًا بالخير كما هو قول الزمخشري في الأساس، ففي قوله: {يعدكم الفقر} مجازان. اهـ.

.قال أبو السعود:

وإنما عبر عن ذلك بالوعد مع أن الشيطان لم يُضِف مجيءَ الفقرِ إلى جهته للإيذان بمبالغته في الإخبار بتحقق مجيئه كأنه نزّله في تقرّر الوقوعِ منزلةَ أفعالِه الواقعةِ بحسب إرادته، أو لوقوعه في مقابلة وعدِه تعالى على طريقة المشاكلة. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {وَيَأْمُرُكُم بالفحشاء} ففيه وجوه الأول: أن الفحشاء هي البخل {وَيَأْمُرُكُم بالفحشاء} أي ويغريكم على البخل إغراء الآمر للمأمور والفاحش عند العرب البخيل، قال طرفة:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ** عقيلة مال الفاحش المتشدد

ويعتام منقول من عام فلان إلى اللبن إذا اشتهاه وأراد بالفاحش البخيل، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبّ الخير لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] وقد نبّه الله تعالى في هذه الآية على لطيفة وهي أن الشيطان يخوفه أولًا بالفقر ثم يتوصل بهذا التخويف إلى أن يأمره بالفحشاء ويغريه بالبخل، وذلك لأن البخل صفة مذمومة عند كل أحد فالشيطان لا يمكنه تحسين البخل في عينه إلا بتقديم تلك المقدمة، وهي التخويف من الفقر.
الوجه الثاني: في تفسير الفحشاء، وهو أنه يقول: لا تنفق الجيد من مالك في طاعة الله لئلا تصير فقيرًا، فإذا أطاع الرجل الشيطان في ذلك زاد الشيطان، فيمنعه من الإنفاق في الكلية حتى لا يعطي لا الجيد ولا الرديء وحتى يمنع الحقوق الواجبة، فلا يؤدي الزكاة ولا يصل الرحم ولا يرد الوديعة، فإذا صار هكذا سقط وقع الذنوب عن قلبه ويصير غير مبال بارتكابها، وهناك يتسع الخرق ويصير مقدامًا على كل الذنوب، وذلك هو الفحشاء وتحقيقه أن لكل خلق طرفين ووسطًا فالطرف الكامل هو أن يكون بحيث يبذل كل ما يملكه في سبيل الله الجيد والرديء والطرف الفاحش الناقص لا ينفق شيئًا في سبيل الله لا الجيد ولا الرديء والأمر المتوسط أن يبخل بالجيد وينفق الرديء، فالشيطان إذا أراد نقله من الطرف الفاضل إلى الطرف الفاحش، لا يمكنه إلا بأن يجره إلى الوسط، فإن عصى الإنسان الشيطان في هذا المقام انقطع طمعه عنه، وإن أطاعه فيه طمع في أن يجره من الوسط إلى الطرف الفاحش، فالوسط هو قوله تعالى: {يَعِدُكُمُ الفقر} والطرف الفاحش قوله: {وَيَأْمُرُكُم بالفحشاء} ثم لما ذكر سبحانه وتعالى درجات وسوسة الشيطان أردفها بذكر إلهامات الرحمن فقال: {والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مّنْهُ وَفَضْلًا} فالمغفرة إشارة إلى منافع الآخرة، والفضل إشارة إلى ما يحصل في الدنيا من الخلق. اهـ.
وقال الفخر:
ختم الآية بقوله: {والله واسع عَلِيمٌ} أي أنه واسع المغفرة، قادر على إغنائكم، وإخلاف ما تنفقونه وهو عليم لا يخفى عليه ما تنفقون، فهو يخلفه عليكم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

معنى واسع أنّه واسع الفضل، والوصف بالواسع مشتق من وَسِع المتعدي إذا عمّ بالعطاء ونحوه قال الله تعالى: {ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما} [غافر: 7]، وتقول العرب: لا يسعني أن أفعل كذا، أي لا أجدُ فيه سعة، وفي حديث علي في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد وسع الناسَ بِشْرُه وخُلقُه».
فالمعنى هنا أنّه وَسِعَ الناس والعالمين بعطائِه. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

يَعِدُ الشيطانُ الفقرَ لفقره، والله يَعِدُ المغفرةَ لكرمه.
الشيطانُ يعدكم الفقر فيشير عليكم بإحراز المعلوم، ويقال يشير عليكم- بطاعته- بالحرص؛ ولا فقرَ فوقه.
يعدكم الفقر بالإحالة على تدبيركم واختياركم.
يعدكم الفقر بنسيان ما تَعَوَّدْتُموه من فضله- سبحانه.
ويقال يعدكم الفقر بأنه لا يزيد شكايتك.
ويقال يعدكم الفقر بتعليق قلبك بما لا تحتاج إليه.
ويقال بالتلبيس عليك رؤية كفايته.
{وَيَأْمُرُكُم بِالفَحْشَاءِ} أي الرغبة في الدنيا، ويقال بالأسباب التي تقوي الحرص، ويقال بكثرة الأمل ونسيان القناعة، ويقال بمتابعة الشهوات، ويقال بإيثار الحظوظ، ويقال بالنظر إلى غيره، ويقال بإخطار شيء سواه ببالك.
ويقال بالانحطاط إلى أوطان الرُّخص والتأويلات بعد وضوح الحق.
ويقال بالرجوع إلى ما تركته لله.
{وَاللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا} الفضل الموعود- في العاجل- القناعة، وفي الآجل الثواب والجنان والرؤية والرضوان و.... والغفران.
ويقال في العاجل الظفر بالنفس، ويقال فتح باب العرفان، ونشر بساط القرب، والتلقي لمكاشفات الأنْس. اهـ.

.من لطائف ابن القيم في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله تعالى: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم}.
هذه الآية تتضمن الحض على الإنفاق والحث عليه بأبلغ الألفاظ وأحسن المعاني فإنها اشتملت على بيان الداعي إلى البخل والداعي إلى البذل والإنفاق وبيان ما يدعوه إليه داعي البخل وما يدعو إليه داعي الإنفاق وبيان ما يدعو به داعي الأمرين فأخبر سبحانه أن الذي يدعوهم إلى البخل والشح هو الشيطان وأخبر أن دعوته هي بما يعدهم به ويخوفهم من الفقر إن أنفقوا أموالهم وهذا هو الداعي الغالب على الخلق فإنه يهم بالصدقة والبذل فيجد في قلبه داعيا يقول له متى أخرجت هذا دعتك الحاجة إليه وافتقرت إليه بعد إخراجه وإمساكه خير لك حتى لا تبقى مثل الفقير فغناك خير لك من غناه فإذا صور له هذه الصورة أمره بالفحشاء وهي البخل الذي هو من أقبح الفواحش وهذا إجماع من المفسرين أن الفحشاء هنا البخل فهذا وعده وهذا أمره وهو الكاذب في وعده الغار الفاجر في أمره فالمستجيب لدعوته مغرور مخدوع مغبون فإنه يدلي من يدعوه بغروره ثم يورده شر الموارد كما قال:
دلاهم بغرور ثم أوردهم ** إن الخبيث لمن والاه غرار

هذا وإن وعده له الفقر ليس شفقة عليه ولا نصيحة له كما ينصح الرجل أخاه ولا محبة في بقائه غنيا بل لا شيء أحب إليه من فقره وحاجته وإنما وعده له بالفقر وأمره إياه بالبخل ليسيء ظنه بربه ويترك ما يحبه من الإنفاق لوجهه فيستوجب منه الحرمان وأما الله سبحانه فإنه يعد عبده مغفرة منه لذنوبه وفضلا بأن يخلف عليه أكثر مما أنفق وأضعافه إما في الدنيا أو في الدنيا والآخرةفهذا وعد الله وذاك وعد الشيطان فلينظر البخيل والمنفق أي الوعدين هو أوثق وإلى أيهما يطمئن قلبه وتسكن نفسه والله يوفق من يشاء ويخذل من يشاء وهو الواسع العليم وتأمل كيف ختم هذه الآية بهذين الاسمين فإنه واسع العطاء عليم بمن يستحق فضله ومن يستحق عدله فيعطي هذا بفضله ويمنع هذا بعدله وهو بكل شيء عليم فتأمل هذه الآيات ولا تستطل بسط الكلام فيها فإن لها شأنا لا يعقله إلا من عقل عن الله خطابه وفهم مراده وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون. اهـ.

.لطائف ونفائس للفخر:

قال رحمه الله:
وفي هذه الآية لطيفة وهي أن الشيطان يعدك الفقر في غد دنياك، والرحمن يعدك المغفرة في غد عقباك، ووعد الرحمن في غد العقبى أولى بالقبول من وجوه أحدها: أن وجدان غد الدنيا مشكوك فيه، ووجدان غد العقبى متيقن مقطوع به وثانيها: أن بتقدير وجدان غد الدنيا، فقد يبقى المال المبخول به، وقد لا يبقى وعند وجدان غد العقبى لابد من وجدان المغفرة الموعود بها من عند الله تعالى، لأنه الصادق الذي يمتنع وجود الكذب في كلامه وثالثها: أن بتقدير بقاء المال المبخول به في غد الدنيا، فقد يتمكن الإنسان من الانتفاع به وقد لا يتمكن إما بسبب خوف أو مرض أو اشتغال بمهم آخر وعند وجدان غد العقبى الانتفاع حاصل بمغفرة الله وفضله وإحسانه ورابعها: أن بتقدير حصول الانتفاع بالمال المبخول به في غد الدنيا لا شك أن ذلك الانتفاع ينقطع ولا يبقى، وأما الانتفاع بمغفرة الله وفضله وإحسانه فهو الباقي الذي لا ينقطع ولا يزول، وخامسها: أن الانتفاع بلذات الدنيا مشوب بالمضار، فلا ترى شيئًا من اللذات إلا ويكون سببًا للمحنة من ألف وجه بخلاف منافع الآخرة فإنها خالصة عن الشوائب، ومن تأمل فيما ذكرناه علم أن الانقياد لوعد الرحمن بالفضل والمغفرة أولى من الانقياد لوعد الشيطان.
إذا عرفت هذا فنقول: المراد بالمغفرة تكفير الذنوب كما قال: {خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] وفي الآية لفظان يدلان على كمال هذه المغفرة أحدها: التنكير في لفظة المغفرة، والمعنى مغفرة أي مغفرة والثاني: قوله: {مَّغْفِرَةً مّنْهُ} فقوله: {مِنْهُ} يدل على كمال حال هذه المغفرة لأن كمال كرمه ونهاية جوده معلوم لجميع العقلاء وكون المغفرة منه معلوم أيضًا لكل أحد فلما خص هذه المغفرة بأنها منه علم أن المقصود تعظيم حال هذه المغفرة، لأن عظم المعطي يدل على عظم العطية، وكمال هذه المغفرة يحتمل أن يكون المراد منه ما قاله في آية أخرى: {فأولئك يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات} [الفرقان: 70] ويحتمل أن يكون المراد منه أن يجعله شفيعًا في غفران ذنوب سائر المذنبين، ويحتمل أن يكون كمال تلك المغفرة أمرًا لا يصل إليه عقلنا ما دمنا في دار الدنيا فإن تفاصيل أحوال الآخرة أكثرها محجوبة عنا ما دمنا في الدنيا، وأما معنى الفضل فهو الخلف المعجل في الدنيا، وهذا الفضل يحتمل عندي وجوهًا أحدها: أن المراد من هذا الفضل الفضيلة الحاصلة للنفس وهي فضيلة الجود والسخاء، وذلك لأن مراتب السعادة ثلاث: نفسانية، وبدنية، وخارجية، وملك المال من الفضائل الخارجية وحصول خلق الجود والسخاوة من الفضائل النفسانية وأجمعوا على أن أشرف هذه المراتب الثلاث: السعادات النفسانية، وأخسها السعادات الخارجية فمتى لم يحصل إنفاق المال كانت السعادة الخارجية حاصلة والنقيضة النفسانية معها حاصلها ومتى حصل الإنفاق حصل الكمال النفساني والنقصان الخارجي ولا شك أن هذه الحالة أكمل، فثبت أن مجرد الإنفاق يقتضي حصول ما وعد الله به من حصول الفضل والثاني: وهو أنه متى حصل ملكة الإنفاق زالت عن الروح هيئة الاشتغال بلذات الدنيا والتهالك في مطالبها، ولا مانع للروح من تجلي نور جلال الله لها إلا حب الدنيا، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «لولا أن الشياطين يوحون إلى قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات» وإذا زال عن وجه القلب غبار حب الدنيا استنار بأنوار عالم القدس وصار كالكوكب الدري والتحق بأرواح الملائكة، وهذا هو الفضل لا غير والثالث: وهو أحسن الوجوه: أنه مهما عرف من الإنسان كونه منفقًا لأمواله في وجوه الخيرات مالت القلوب إليه فلا يضايقونه في مطالبه، فحينئذ تنفتح عليه أبواب الدنيا، ولأن أولئك الذين أنفق ماله عليهم يعينونه بالدعاء والهمة فيفتح الله عليه أبواب الخير. اهـ.